سورة الفرقان - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الفرقان)


        


{تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (3)} [الفرقان: 25/ 1- 3].
في فاتحة هذه السورة يصف الحق تعالى نفسه بالجلال والجمال والكمال، والتنزيه عن صفات النقصان، في قوله سبحانه: {تَبارَكَ} ومعناه: تزايد خيره وكثرت بركاته ونعمه، وهو فعل مختص بالله تعالى، لم يستعمل في غيره. ومن بركات الله تعالى وأعظمها: إنزال كتابه الذي هو الفرقان الفارق بين الحق والباطل، على عبده محمد الرسول، ليكون نذيرا منذرا للعوالم كلها من إنس وجن بسوء المصير إذا خالفوه وعارضوه. وهو أيضا بشارة للمؤمنين الصالحين بحسن العاقبة، والخلود في الجنان إذا هم اتبعوه وعظموه وكلمة {عَلى عَبْدِهِ}: هو رسول الله. والفرقان: هو القرآن الذي فرق الله به بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والحضارة والفساد، و{لِلْعالَمِينَ} عام في كل إنسي وجني، وهو دليل على عالمية شريعة القرآن، وأنها تشمل جميع الأجناس البشرية، ولا تختص بالعرب وحدهم.
وهذه الآية رد على مقالات قريش حين قالوا: «إن القرآن افتراء محمد، وإنه ليس من عند الله». ثم أكد الله تعالى انفراده بإنزال القرآن ببيان اتصافه بصفات الجلال والعظمة وهي أربع:
1- إنه المالك المطلق لجميع ما في السموات والأرض، يملك الخلق والإيجاد والإعدام، والإحياء والإماتة، والأمر والنهي على منهج الحق وعلى وفق الحكمة والمصلحة. وهذا دليل وجود الله تعالى ووحدانيته في الخلق والتدبير وهي وحدانية الربوبية، ووحدانيته في وجوب العبادة لله وحده وهي وحدانية الألوهية.
2- ليس لله ولد مطلقا، ولم يتخذ ولدا، لعدم حاجته إليه، فهو المنزّه عن الوالد والولد، والصاحبة، لاتصافه بالكمال، وتنزهه عن صفات النقصان.
3- وليس لله أيضا شريك في ملكه وسلطانه، فهو وحده المعبود بحق، والجدير بالعبادة، والمتفرد باستحقاق العبودية، والتوجّه بهذه العبودية لله تعالى يشعر الإنسان بالعزة والكرامة، ويملأ النفس خوفا من المتصف بالعظمة والجلال، ويجعل الرجاء والأمل بالله المعبود، فينشر في النفس الطمأنينة، ويزرع فيها الثقة، ويتوقع بها كامل الرحمة والفضل الإلهي بالنعمة الشاملة.
وهذا رد على فئة الثنوية القائلين بوجود إلهين اثنين: وهما النور والظلمة، وعبدة النجوم والكواكب من الصابئة، وعبدة الأوثان من مشركي العرب وغيرهم الذين عبدوا مع الله إلها آخر ليقربهم إليه زلفى.
4- وخلق الله كل شيء، وهذا عام في كل مخلوق، وأوجده بتقدير معين، متناسب الأجزاء، وتقدير الأشياء: هو حدّها بالأمكنة والأزمان والمقادير، والمصلحة، والإتقان، فسبحان من أبدع الخلق بنظام متناسق متناسب بديع.
وأما الوثنيون وأمثالهم: فإنهم اتخذوا من دون الله آلهة مزعومة، لا تستحق الألوهية لأسباب أربعة: وهي أنها عاجزة عن خلق شيء، والإله بحق هو الخالق الموجد، وهي مخلوقة، والمخلوق محتاج، وهي لا تملك لنفسها ضرا ولا نفعا، والإله هو القادر على الضر والنفع، وهي لا تملك الإماتة والإحياء، ولا النشور، أي إعادة الأجساد حية من القبور، فالنشور: هو الإحياء بعد الموت للحساب، أو بعث الناس من القبور، والمخلوق: لا يملك ذلك.
ومن المعلوم أن الأصنام مخلوقة، يخلقها البشر بالنحت والتصوير، وهذا أشد إبداء لخساسة الأصنام.
إن الفرق واضح إذن بين الخالق المستحق وحده للعبادة وهو مالك السموات والأرض، وخالق جميع الأشياء بتقدير دقيق وتناسب بديع، وبين المخلوقات الضعيفة بنفسها، العاجزة عن جلب الخير ودفع الضر، التي لا تستطيع فعل شيء، ولا سلب شيء.
الطعن في القرآن والنبي:
يتسرع الجهلة والأغبياء عادة في الحكم على الأشياء، فيصفونها بصفات باطلة، معتمدين على مجرد الأوهام، جامدين على ما هم عليه من انحراف وضلال. وهكذا كان شأن كفار قريش حين ظهور دعوة الإسلام وتنزل الوحي على قلب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، تسرعوا في وصف القرآن الكريم الموحى به من الله تعالى بأنه مختلق مكذوب وأسطورة، وتورطوا في وصف النبي عليه الصلاة والسلام بأنه مجرد ناسخ، انتسخ القرآن وأخذه عن علماء أهل الكتاب، فهو يملى عليه في الصباح وفي المساء. فرد الله تعالى على هاتين الشبهتين ببيان كون القرآن كلام الله المنزل على رسوله الأمين، وليس هو مفترى من عند محمد صلّى اللّه عليه وسلّم. أخبر الله تعالى عن هذه الشبهات، وطريق الرد عليها، فقال سبحانه:


{وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6)} [الفرقان: 25/ 4- 6].
نزلت الآية كما ذكر ابن عباس في النضر بن الحارث الذي قال: القرآن أساطير الأولين، وردّد مشركو قريش مقالته، فقالوا: كل ما في القرآن من ذكر أساطير الأولين، فإنما هو بسبب النضر بن الحارث المشهور في ذلك، ثم رموا محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم بأنه اكتتبها.
والآيات تضمنت بيان شبهتي قريش والرد عليهما. أما الشبهتان فهما:
أولا- قال كفار قريش: ما هذا القرآن إلا كذب واختلاق، اختلقه محمد (صلّى اللّه عليه وسلّم) واستعان على جمعه بقوم آخرين من أهل الكتاب الذين أسلموا فيما بعد. فأجابهم الله تعالى بأنهم أتوا بما هو ظلم بيّن، وقول باطل مكذوب مفترىّ على ربهم، وهذا أشبه بمنطق الصبية الذين يعجزون عن مقاومة الشيء، فيصفونه بأنه وهم فاسد، وزور محض، وكلام ساقط، والحقيقة الساطعة عكس ذلك.
ثانيا- قال كفار قريش أيضا: إن هذا القرآن مجرد أكاذيب المتقدمين، وأحاديث السابقين المسطرة في كتبهم، اكتتبها محمد عن طريق أهل الكتاب: وهم في قول مجاهد: قوم من اليهود، وفي قول ابن عباس: عبيد من الفرس كانوا للعرب، أحدهم أبو فكيهة مولى الحضر مبيّن، وجبر، ويسار، وعدّاس، وغيرهم، فهي تقرأ عليه صباح مساء، أي دائما، وخفية، ليحفظها، ثم يعلنها، فأخبر الله تعالى أنهم ما جاؤوا إلا إثما وزورا، أي ما قالوا إلا بهتانا وزورا، والزور: تحسين الباطل، فإنهم عرفوا محمدا في صغره وشبابه بأنه الصادق الأمين، لا يصدر عنه شيء من الافتراء والأباطيل.
ثم أجابهم الله تعالى بأمر نبيه أن يقول لكفرة قريش ردا على أباطيلهم: لقد أنزل الله تعالى القرآن المشتمل على أخبار الأولين والآخرين، وذلك بصدق وواقعية، لا مجال لأحد من البشر في الإتيان به، والله الذي أنزل القرآن، يعلم السرائر كلها مهما دقّت أو خفيت، كما يعلم بالظواهر، وإن الله الذي أنزل القرآن رحمة بالعباد:
هو المتصف بالمغفرة الواسعة والرحمة الشاملة. والإتيان بهذين الوصفين: «الغفور الرحيم» لفتح باب الأمل والتوبة، ليرجع الجاحدون عن جحودهم، ويتوبوا على تقصيرهم، ويتجنبوا كل آفات ضلالهم. وهذا شأن المصلح والمربي الناجح، لا يلجأ لأول وهلة للعقاب المادي، وإنما يترفع ويسمو عن أخطاء الأدنياء، فيتحقق النجاح المنشود في الإصلاح والإبقاء، والبعد عن الإفناء والتدمير، وقد تكرر هذا المنهج التربوي الرفيع في آيات القرآن الكريم، مثل قول الله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)} [المائدة: 5/ 73- 74].
وهذا إعلان واضح بأن التوبة الصادقة تسقط الذنوب السابقة، لأن الله غفار لمن تاب، رحيم بمن أناب.
طعن آخر بالنبي:
تابع المشركون في بطحاء مكة طعونهم بالنبي محمد صلّى اللّه عليه وسلّم، جحودا برسالته، وتنفيرا عن اتباعه، فتصوروا أن الرسول النبي ينبغي أن يكون ملكا من الملائكة، ولا يصح أن يكون مجرد بشر عادي يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، وإذا كان الرسول من البشر، فلما ذا يكون فقير الحال؟ ولم لا يكون مؤيدا بالحرس والأعوان، يعيش في قصر شامخ، وبستان مثمر ممتع، وتكون يده ملأى بالكنوز المترعة، والأموال الوفيرة؟
حكى القرآن الكريم هذه الأخبار، ورد عليها ردا مفحما، يقطع ألسنة الجاحدين المستكبرين، فقال الله تعالى:


{وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10)} [الفرقان: 25/ 7- 10].
ذكر ابن إسحاق وغيره أن سادة قريش كعتبة بن ربيعة وأبي سفيان بن حرب والنضر بن الحارث وغيرهم قالوا: يا محمد، إن كنت تحبّ الرياسة، ولّيناك علينا، وإن كنت تحب المال جمعنا لك من أموالنا، فلما أبى رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم رجعوا في باب الاحتجاج عليه، وقالوا: مالك وأنت رسول من الله تأكل الطعام، وتقف بالأسواق تريد التماس الرزق؟ أي من كان رسول الله فهو مستغن عن جميع ذلك. ثم قالوا له: سل ربك أن ينزل معك ملكا ينذر معك، أو يلقى إليك كنز من الذهب تنفق منه، أو يردّ لك جبال مكة ذهبا، أو تزال الجبال، ويكون مكانها جنات تجري فيها الأنهار، فنزلت هذه الآية.
المعنى: هذه خمس شبهات أخرى حول النبي، وجهها المشركون، تتعارض في زعمهم مع صفة النبوة، وهي:
1- قال المشركون: لا ميزة لهذا النبي الذي يدعي الرسالة علينا، فهو يأكل الطعام كما نأكل، ويحتاج لما نحتاج إليه، أي إنه ينبغي أن يكون ملكا.
2- وهذا النبي يمشي في الأسواق كما نمشي، طلبا للتكسب والرزق، فلا فضل له علينا، وهو مثلنا، فمن أين يكون تميزه علينا؟
3- وهلا أنزل عليه ملك من عند الله، فيشهد على صدق ما يدعيه، ويرد على من خالفه؟! 4- وهلا ألقي عليه كنز من السماء، فينفق منه، فلا يحتاج للتردد على الأسواق، لطلب الرزق والمعاش؟! 5- وإن لم يكن له كنز، فهلا يكون له بستان يأكل منه، ويعيش من ثمراته وغلاله؟!
وهذه الأوصاف المادية مستمدة من صفات أهل السلطة والنفوذ من الملوك والأمراء والحكام. وفاتهم أن الرسالة الإلهية شيء آخر فوق البشرية، ثم طعنوا في عقلية النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، فقالوا أي كفار قريش:
6- ما تتبعون إلا رجلا مسحورا، مختل العقل، لا يدرك ما يقول، فكيف يطاع فيما يأمر؟! أجاب الله تعالى عن هذه الشبهات ببيان التعجب من طرحها، قائلا: انظر أيها النبي مسريا عن نفسك، ومتعجبا لما يقول هؤلاء المشركون، وتأمل بتلك الأمثلة والأشباه، فهي أقوال باطلة، وأوصاف مفتراة، فلا يجدون طريقا للهدى والاستقامة ومعرفة الحق. إنهم أخطئوا الطريق فلا يجدون سبيلا لهداية، ولا يطيقونه لتلبسهم بضده من الضلال.
إن شبهات مشركي مكة حول النبي ضعيفة ساقطة، لا تستحق الرد العلمي عليها، وجوابها إجمالا ما سبق، وأما تفصيلا فهو:
تعاظم الله وتكاثر خيره، فهو سبحانه إن شاء وهب لك في الدنيا خيرا مما اقترحوا أو طلبوا، وهو أن يعجل لك مثلما وعدك به في الآخرة من الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، ومن القصور الشامخة النادرة، وأن يؤتيك خيرا مما يقولون في الدنيا، ويكون أفضل وأحسن. ولكن الله تعالى ادخر لك العطاء في دار الآخرة الخالدة، لا في الدنيا الزائلة، حتى لا تشتغل بالدنيا عن الدين، وأداء مهمة تبليغ الرسالة، وما عند الله خير وأزكى، وأدوم وأبقى.
إنكار المشركين القيامة:
إن من أهم الأسباب التي كانت وراء تكذيب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من قومه قريش إنكارهم يوم القيامة وعدم فهمهم للحق، فهذا أساس كفرهم، فلو أنهم آمنوا بالبعث يوم القيامة، وقدروا خطورة المساءلة والحساب، لدفعهم الإيمان إلى التصديق برسالة هذا النبي وبما أنزل الله عليه في القرآن، وترتب على هذا التكذيب للرسالة الإلهية وإنكار القيامة استحقاقهم للعذاب الشديد في الآخرة، في نار السعير ذات التغيظ والزفير، قال الله تعالى واصفا هذه الأحداث الغيبية:

1 | 2 | 3 | 4 | 5